المصادقة على الطلاق غير القضائي
أمام إنفتاح الأنظمة القانونية على بعضها البعض بناء على تطور العلاقات الدولية أصبح الحديث عن قانون وطني بمعزل عن تزاحم النظم القانونية يكاد أن يكون أمرا مستحيلا.
ونظرا لتطور عدد التونسيين المقيمين بفرنسا [1]، ارتبطت المنظومة القانونية الوطنية بنظريتها الفرنسية، وأصبح لزاما على القضاء التونسي التدخل لمواكبة التطورات التي حدثت بالتشريع الأجنبي.
وتجلى التحديث في المنظومة القانونية الفرنسية بموجب القانون عدد 2016-1547 المؤرخ في 18/11/2016 والمتعلق بتحديث العدالة للقرن الواحد والعشرين[2] ، فتم تنقيح قانون الأسرة وتعديل الفصل 229-1 من المجلة المدنية الفرنسية [3] ليضيف شكلا جديدا للطلاق وهو الطلاق غير القضائي والذي يتم بمقتضى كتب خطي يمضيانه بحضور محام لكل واحد منهما، ويوقع كل محام على الإتفاق.
ويتم بعد ذلك إيداع الكتب لدى عدل إشهاد الذي يتكفل بمراقبة الشروط الشكلية التي يفرضها القانون، ويضفي الإيداع على إتفاقية الطلاق تاريخا ثابت وصبغة تنفيذية [4].
بعد دخول ذلك القانون حيز التنفيذ في غرة جانفي، إعتمد عدة تونسيين تلكم الصيغة الجديدة وتحصلوا على حجج طلاق محررة ومصادق عليها من عدول إشهاد بفرنسا، فتم السعي لإدراج إتفاقيات الطلاق برسوم الحالة المدنية لكن جوبهت مطالبهم بالرفض بعلة أن المعاهدة المبرمة بين تونس وفرنسا بتاريخ 28/06/1972 والمتعلقة بالتعاون القضائي في المادة المدنية والتجارية والإعتراف بالأحكام وتنفيذها، لا تقبل إلا إدراج الأحكام القضائية الصادرة عن السلطات القضائية في كلا البلدين والمتعلقة بالحالة الشخصية.
أمام ثبوت تعذر الإدراج توجه أصحاب إتفاقيات الطلاق للقضاء وهنا برز الدور الخلاق للقضاء التونسي سواء بموجب أحكام إستعجالية أو أحكام في الإكساء بالصيغة التنفيذية.
I– تدخل القضاء الإستعجالي:
كان على المتحوز على إتفاقية طلاق غير قضائي التوجه للقضاء التونسي، وفعلا تقدم العديد منهم للقضاء الإستعجالي لدى المحكمة الإبتدائية بتونس قصد المطالبة بالإذن لمصالح الحالة المدنية بإدراج إتفاقية الطلاق، وقد قضت الدائرة السادسة عشر برئاسة السيد مالك الغزواني جملة من القرارات المتواترة [5] التي وجب تناولها بالتمحيص للحديث عن الدور الخلاق للقاضي الذي يجعله متجاوزا لجمود النصوص التشريعية.
هذا ويبقى تدخل القضاء الإستعجالي مشروطا بأركان الفصل 201 من م م م ت وهنا يكمن دور القضاء في تطويع الإجراءات والنصوص القانونية لإكسابها حركية دائمة ومتجددة، فلا يتعهد القاضي الإستعجالي بالنزاع ولا يبت فيه إلا بعد توفر شرطين لا محيص عنهما ألا وهما عدم مساس الموضوع بالأصل وركن التأكد.
1-شرط عدم المساس بالأصل:
بمراجعة جملة القرارات التي صدرت عن الدائرة الإستعجالية يتضح أنها شددت على انعدام المنازعة الجدية في الإعتراف بالطلاق الواقع بكتب خطي بفرنسا والذي ولئن كان خارج إطار قضائي إلا أنه لا مانع جدي يحول دون الإعتراف به طالما أنه لا يتعارض مع مضمون الإتفاقية التونسية الفرنسية المتعلقة بالتعاون القضائي في المادة المدنية والتجارية المبرمة في 28 جوان 1972 و التي لم تتعرض لتلكم الحالة اللاحقة، ولا يخالف مجلة القانون الدولي الخاص التي ترمي في روحها إلى الإعتراف بالوضعيات القانونية التي نشأت بالخارج طبقا لشكليات القانون الوطني.
وبمراجعة القرارات المذكورة فقد خاضت في مدى تطابق تلكم القرارات غير القضائية مع النظام العام الدولي التونسي تطبيقا لأحكام الدستور[6] وكذلك الاتفاقيات الدولية المصادق عليها من الدولة التونسية[7] كما تم التثبت في كون إتفاقية الطلاق لم تبنى على التحيل، ذلك أن التحيل يمكن أن يتخذ شكلين مختلفين في القانون الدولي الخاص فيكون متعلقا إما بقواعد تنازع القوانين أو بقواعد تنازع الإختصاص[8]، ليتم في الأخير التأكيد على أن إتفاقية الطلاق لم تناف حكما صادرا عن القضاء التونسي وتعلق بنفس النزاع أطرافا وموضوعا.
وطالما تأكد أن تعهد القضاء الإستعجالي استجاب للشرط الأول والمتمثل في انعدام المنازعة الجدية بخصوص أصل الحق، وجب المرور للركن الجوهري الثاني موضوع الفصل 201 من م م م ت.
2– ركن التأكد:
لقد حاول الحكم الإستعجالي المذكور الإنصهار في مجال التدخل العادي لقضاء العجلة مع صبغ ذلك التدخل بنكهة القانون الدولي، فتم التأكيد على وجود تهديد لحق لا يحتمل أي
إنتظار ذلك أنه وطالما حصل الطلاق بين الطرفين بفرنسا وأنتج آثاره فإن القاضي الاستعجالي يكون مختصا بالنزاع.
يكمن الدور الخلاق لذلك الحكم في إعتماده لعدة مصادر مثل الفصل 24 من الدستور الجديد ليتم التأكيد على مبدأ إستمرارية الحالة المدنية بما أن الطلاق قد حصل بين طرفين بفرنسا وأنتج آثاره فإن رفض الإعتراف بهذه الوضعية الجديدة بالرغم من إنعدام كل منازعة جدية فيها من شأنه أن يخلق حالة من عدم الطمأنينة ويلحق ضررا متفاقما وهنا يتدخل القضاء الإستعجالي الذي راقب وتأكد من عدم مساس الموضوع بالأصل وبالنظام العام وانتفت شبهة التحيل فأذن بالتالي لضابط الحالة المدنية بإدراجه برسم ولادة الطالب.
II– تدخل قضاء الأصل:
لقد أرتئ البعض الآخر من المتقاضيين التوجه لقضاء الأصل وخاصة الدوائر الشخصية بالمحكمة الابتدائية بتونس وقد صدرت عدة أحكام[9] تميزت كذلك بحسن تطبيق القانون وعكست مجددا الدور الخلاق للقضاء في تأويل القواعد القانونية وتحقيق ملاءمتها مع تطور منظومة القوانين الدولية.
وكان تعليل تلكم الأحكام مستندا على مصدرين لتبرير الإكساء بالصيغة التنفيذية أولهما مجلة القانون الدولي الخاص وخاصة أحكام الفصل 12، ثم الإتفاقيات الدولية للتعاون القضائي.
إعتماد أحكام مجلة القانون الدولي الخاص:
سعت المحكمة من خلال الأحكام المذكورة إلى التأكيد أولا على الصبغة النهائية لكتائب الإتفاق المطلوب إكساؤها من خلال عدم قابليتها للتعديل أو التراجع عن الشروط المضمنة بها بمجرد التوقيع عليها من الطرفين ومحاميهما وإيداعه بدفاتر عدل الإشهاد.
وبعد التثبت في الصبغة النهائية أشار الحكم المذكور إلى شكل القرار المراد إدراجه بدفاتر الحالة المدنية، والذي ولئن لم يتخذ شكل حكم إلا أنه لا مانع جدي يحول دون الإعتراف به على معنى أحكام الفصل 12 من مجلة القانون الدولي الخاص[10]، بل أن الدائرة الشخصية اعتمدت تأويلا موسعا لمقتضيات الفصل المذكور عندما شددت على أن التقييم الوارد للسندات التي يمكن تنفيذها بالبلاد التونسية « وهي الأحكام الصادرة بفصل النزاع والخصومة بين الطرفين من جهة والقرارات الولائية الصادرة دون وجود خصومة من جهة أخرى » فقد تم السهو عن ذكر القرارات غير القضائية التي تصدر عن هيئات رسمية مثل المأمورين العموميين والسلطات الإدارية فهو موضوع الحال خاصة وأن الفصل الأول من المجلة الأولى لم يقص ذلك، بل تأكد أن سكوت الفصل 12 المذكور عن الإشارة إلى الحجج الرسمية لا يعد إقصاء لها وإنما افتقارا للدقة وعدم افتراض للوقائع المستجدة حديثا، لتنتهي المحكمة للقول بوجود تناسق بين كتائب الطلاق بالتراضي مع التشريع الوطني وخاصة روح مجلة القانون الدولي الخاص التي ترنو للمصادقة على جمع المستندات الأجنبية التي لم تخالف النظام العام الإجرائي والموضوعي التونسي خاصة مع تطور عدد المواطنين التونسيين المقيمين بصفة دائمة بالخارج والذين تكون لهم مصالح ببلد المنشأ متعلقة خصوصا بالحالة المدنية.
لكن الدوائر المتعهدة لدى المحكمة الابتدائية بتونس لم تتوقف عند التشريع الوطني بل أنها تجاوزت ذلك وسعت للتحقيق والتثبت من مدى ملائمة تلكم كتائب الطلاق مع الاتفاقيات الدولية.
الرجوع لأحكام الاتفاقيات الدولية:
لا يخفى على الجميع أن الإتفاقيات الدولية المصادق عليها من الدولة التونسية تكون أعلى مرتبة من التشريع الوطني، فمن الواجب أن تكون تلكم الإتفاقيات مصدرا تشريعيا تلجؤ له المحاكم التونسية لتعليل أحكامها وهو ما ذهبت إليه الدوائر الشخصية للقضاء بإكساء كتب الطلاق بالتراضي بالصيغة التنفيذية « ولئن لم يأخذ هذا الطلاق شكل الحكم إلا أنه لا مانع جدي يحول دون الإعتراف به باعتبار أن الاتفاقية المبرمة بين الجمهورية الفرنسية والجمهورية التونسية المتعلقة بالتعاون القضائي في المادة المدنية والتجارية وبالاعتراف بالأحكام العدلية وتنفيذها المبرمة بتاريخ 28/06/1972 ولئن لم تتعرض لهذه المسألة وذلك لسابقيتها عن صدور القانون المؤرخ في 31/12/2017 والمنقح للفصل 229 وما يليه من القانون المدني الفرنسي ».
لكن المحكمة لم تكتف بذلك، وبحثت عن إتفاقيات التعاون القضائي الأخرى والتي كانت أكثر صراحة ووضوحا في إمكانية الإذن بتنفيذ الحجج الرسمية ومنها الفصل 43 من الاتفاقية التونسية الألمانية المتعلقة بالتعاون القضائي المؤرخة في 19/07/1966 وكذلك الفصل 17 من الاتفاقية التونسية النمساوية المتعلقة بالاعتراف بالأحكام العدلية والحجج الرسمية المؤرخة في 06/04/1977 وفي نفس الاتجاه أشارت اتفاقية الرياض العربية للتعاون القضائي المؤرخة في 06/04/1983 في الفصل 36 منها إلى إمكانية قبول السندات التنفيذية بنفس الشروط المقررة للأحكام القضائية.
ثم شددت على احترام كتب الطلاق المراد إدراجه بدفاتر الحالة المدنية للنظام العام الدولي التونسي والذي يفرض في مادة الطلاق الواقع بالخارج إحترام مبدأ عدم التمييز بين الرجل والمرأة وحماية المصلحة الفضلى للطفل في حال وجوده وذلك طبقا لأحكام الفصلين 21 و47 من الدستور والفصل 16 من إتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة المؤرخة في 18/12/1979 والفصل 3 من اتفاقية الأمم المتحدة لحقوق الطفل.
لتنتهي في الأخير للتصريح بإكساء اتفاقية الطلاق بالتراضي المعروضة عليها بالصبغة التنفيذية بالبلاد التونسية وتأذن لضابط الحالة المدنية بالتنصيص على ذلك بدفاتر الحالة المدنية.
لقد بات جليا أن القضاء التونسي قد تعامل بشكل ايجابي مع تطور التشريع الفرنسي وتجاوز جمود النصوص وخلق قواعد جديدة أدت لإضافة شكل جديد للطلاق لم تعهده المحاكم التونسية بل أن رؤساء المحاكم [11] خارج العاصمة قد اجتهدوا مجددا وأصدروا أذونا على العرائض في الموضوع وإذن لضباط الحالة المدنية الراجعين بالاختصاص الترابي لهم بإدراج اتفاقات الطلاق بالتراضي بدفاتر الحالة المدنية وهو لعمري تطور ايجابي جديد ينبئ بمزيد من السلاسة في التعامل مع الوضعيات القانونية المستجدة، خاصة وأن المحكمة الابتدائية بتونس أصبحت تأذن بإدراج اتفاقية الطلاق بالتراضي بمجرد مطلب إصلاح حالة مدنية.
هذا وقد بات من المجدي التفكير في إمكانية اعتماد آلية اتفاقيات الطلاق بالتراضي بالتشريع الوطني تسهيلا على المتقاضي وتخفيفا على المحاكم.
[1] بلغ عدد التونسيين المقيمين بفرنسا سنة 2017 ما قدره تقريبا 670.000 شخص حسب إحصائيات ديوان التونسيين بالخارج ( فيفري 2018)
[2] Loi n 2016-1547 du 18 novembre 2016 de modernisation de la justice du XXI ème siècle JORF , du 19 novembre 2016 ,
بقلم : الأستاذ محمد هيثم بن مخلوفn0 19 texte n0 1
[3] Selon le nouvel article 229-1 « lorsque les époux s’entendant sur la rupture du mariage et ses effets , ils constatent , assistés chacun par un avocat , leur accord dans une convention prenant la forme d’un acte sous signature privée contresigné par leurs avocats et établi dans les conditions prévues à l’article 1374 .
Cette convention est déposée au rang des minutes d’un notaire, qui contrôle le respect des exigences formelles prévues aux 10 à 60 de larticle 229-3 .il s’assure également que le projet de convention n’a pas été singé avant l’expiration du délai de réflexion prévu à l’article 229-4 ».
[4] « الطلاق الغير قضائي الفرنسي امام المحاكم التونسية، قبول على مضض » سهيمة بن عاشور .
[5] على سبيل الذكر القرار الاستعجالي الصادر عن الدائرة 16 بالمحكمة الابتدائية بتونس عدد 86358 بتاريخ 14/11/2017 والقرار الصادر عن نفس الدائرة تحت عدد 90414 بتاريخ 27/02/2018 .
[6] الفصل 21 من الدستور الذي اقتضي : » إن المواطنون و المواطنات متساوون في الحقوق و الواجبات , و هم سواء امام القانون من غير تمييز « .
[7] خصوصا الفصل 16 من اتفاقية القضاء على جميع إشكال التمييز ضد المرأة المؤرخة في 18/12/1979 والفصل 1 و2 و7 و16 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان.
[8] « الطلاق غير القضائي الفرنسي أمام المحاكم التونسية » سهيمة بن عاشور أستاذة تعليم عال بكلية الحقوق والعلوم السياسية بتونس.
[9] على سبيل الذكر الحكم المدني عدد 11766 بتاريخ 22/01/2018 الصادر عن الدائرة الشخصية بالمحكمة الابتدائية بتونس.
[10] الفصل 12 من مجلة القانون الدولي الخاص : » يؤذن بتنفيذ الأحكام وكذلك القرارات الولائية الصادرة عن سلطة أجنبية مختصة تكسي بالصبغة التنفيذية متى سلمت من الموانع المنصوص عليها بالفصل 1 من هذه المجلة » يراجع التعليق الوارد بكتاب منظومة القانون الدولي الخاص التونسي، فاطمة الزهراء بن محمود والحسين السالمي صفحة 179 .
[11] الإذن على عريضة الصادر عن رئيس المحكمة الابتدائية بالمنستير تحت عدد 37549 بتاريخ 15/03/2018 والإذن على العريضة الصادر عن المحكمة الابتدائية بسوسة تحت عدد 83866 بتاريخ 20/02/2019 .